كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الروضة الندية ما نصه: وأما ذبيحة أهل الذمة، فقد دلّ على حلّها القرآن الكريم بهذه الآية. ومن قال: إن اللحم لا يتناوله (الطعام) فقد قصر في البحث، ولم ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب. كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سمًّا، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلي بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت: إن صح شيءٌ من هذا، فالكلام في ذبيحته، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه. وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابيّ مانعًا، لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى. الخامس: أريد بـ: {أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم- وهم متنصّرو العرب من بني تغلب- فلا تحلّ ذبيحته. روي عن عليّ بن أبي طالب قال: لا تأكل من ذبائح نصارى بني تغلب. فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب؟ فقال لا بأس به. ثم قرأ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم} [المائدة: 51]. هذا قول الحسن وعطاء والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد- كذا في «اللباب».
قال ابن كثير: وأما المجوس فإنهم- وإن أخذت منهم الجزية تبعًا وإلحاقًا لأهل الكتاب- فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. خلافًا لأبي ثور، إبراهيم بن خالد الكلبي (أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد بن حنبل) ولما قال ذلك، واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك. حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه- يعني في هذه المسألة- وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
ولكن لم يثبت بهذا اللفظ. وإنما الذي في صحيح البخاري عن عبد الله الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} فدلّ بمفهوم المخالفة، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل...!
السادس: قيل: هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقًا، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى. وعن ابن عمر: لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله تعالى، لا يحل ذلك. وهو قول ربيعة. وسئل الشعبي وعطاء، عن النصراني يذبح باسم المسيح؟ فقال: يحلّ. فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال الحسن: إذا ذبح اليهوديَّ أو النصراني وذكر اسم الله، وأنت تسمع، فلا تأكل. وإذا غاب عنك فكُلْ. فقد أحله الله لك. كذا في «اللباب». وقول الحسن- في هذا البحث- هو الحسن.
وفي «النهاية» من كتب الزيدية: أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم. فكرهه مالك، وأباحه أشهب، وحرمه الشافعي. وذلك لتعارض عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وعموم قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]، فتخصيص كل واحد للآخر محتمل. ثم قال: والجمهور على تحريم ذبيحة المرتدّ. وأجازها إسحاق، وكرهها الثوري. وسبت الخلاف: هل المرتد يتناول اسم (الكتاب) أم لا؟ قال: وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب، هل اسم (الكتاب) يتناول المتنصرّ والمتهوّد من العرب، كما روي عن ابن عباس؟ أوْ لا يتناول، كما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام. انتهى.
وقوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} يعني: ذبائحكم حلال لهم. فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين. كذا في «التفسير» المنسوب لابن عباس.
ونقل بعض مفسّري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء، وبقية التابعين السالف ذكرهم، وأكثر المفسرين والفقهاء، أن المراد ذبائح المسلمين.
وقال الزجاج: تأويله: حلّ لكم أن تطعموهم. لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة.
وقال ابن كثير: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم. وليس إخبارًا عن الحكم عندهم. اللهم! إلاَّ يكون خبرًا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه. سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى. أي: ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمجازاة. كما ألبس النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أُبَيِّ، ابن سلول حين مات ودفنه فيه. قالوا: لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه. فجازاه النبيّ صلى الله عليه وسلم. ذلك بذلك. فأمّا الحديث الذي فيه «لا تصحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلاَّ تقيّ» فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم. انتهى.
وقال الرازيّ: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا. وأيضًا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهًا على التمييز بين النوعين. انتهى.
وقال البرهان البقاعيّ في «تفسيره»: وقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} أي: تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية. ولما كان هذا مشعرًا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم. زاده تأكيدًا بقوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} أي: فلا عليكم في بذله لهم، ولا عليهم في تناوله. انتهى.
وفي «أمالي» الإمام السهيلي رحمه الله تعالى: قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ فعنه جوابان: أحدهما أن المعنى: انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم، فإن أَطْعَمُوكُمُوهُ فكلوه، ولا تنظروا إلى ما كان محرمًا عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم. ثم نسخ ذلك في شرعنا. والآية بيان لنا لا لهم، أي: اعلموا أن ما كان محرمًا عليهم، مما هو حلال لكم قد أباح الله لكم طعامنا- كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحلّ لكم هو الذي يحل لنا، لا غيره. فالمعنى- طعامهم حل لكم، إذا كان الطعامَ الذي أحللته لكم. وهذا التفسير معنى قول السدّي وغيره.
الثاني: للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين، أن المعنى: جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم. لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم. لأن دينهم باطل. إلا أنه لم يقل: وإطعامكم، بل (طعامكم)-والطعام المأكول- وأما الفعل فهو الإطعام. فإن زعموا أن (الطعام) يقوم مقام (الإطعام) توسعًا، قلنا: بقي اعتراض أخر. وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ. وهو ممتنع بالإجماع. لا يجيزون (إطعام زيد حسنٌ للمساكين) ولا (ضربك شديدٌ زيدًا) فكيف جاز {وطعامكم حلّ لهم}؟ انتهى.
قال الناصر في الانتصاف: وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشيعة. لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} كما علق الحكم بالمؤمنين. وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} [الممتحنة: 10]، فإنّ لقائل أن يقول: في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم. ولا يستطيع ذلك في آية (المائدة) هذه. لأن الحكم فيها مثبت، والله أعلم.
ثم قال: ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة- أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أي: لا جناح عليكم- أيها المسلمون!-أن تطعموا أهل الكتاب. انتهى.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} عطف على (الطيبات) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه. أي: حلٌّ لكم. والمراد بـ (المحصنات) العفيفات عن الزنى. كما قال تعالى في الآية الأخرى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]. وهو المروي عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم ومجاهد. وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: المحصنات الحرائر. فقيل: عني بهن غير الإماء. وقيل: أراد بهن العفيفات، كقول الجمهور. وذلك لأن الحرّ يطلق على خلاف العبد، وعلى خيار كل شيء، كما في «القاموس».
قال الزمخشري: وتخصيصهن بعثٌ على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق. وكذلك نكاح غير العفائف منهن. انتهى.
أقول: جواز نكاح الأمَة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة، لآية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25] الخ. وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون. وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زانٍ وغيره، حتى تتوب وتنقضي عدتها. لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. ولما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات، والطبراني في «الكبير» و«الأوسط» من حديث عبد الله بن عَمْرو: أن رجلًا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه. فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}. وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنّه، من حديث ابن عمر: أن مرثد الغَنَوِي كان يحمل الأسارى بمكة. وكان بمكة بغي يقال لها عناق. وكانت صديقته. قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقًا؟ قال، فسكت عني. فنزلت الآية: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]. فدعاني فقرأها عليّ وقال: لا تنكحها. وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله». قال ابن القيّم: أخذ بهذه الفتاوى- التي لا معارض لها- الإمام أحمد ومن وافقه- وهي من محاسن مذهبه- فإنه يجوز أن ينكح الرجل زوجًا تحبه. ويعضد مذهبَه بضعة وعشرون دليلًا قد ذكرناها في موضع آخر.
وأخرج ابن ماجة والترمذي وصحة، من حديث عَمْرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: «استوصوا في النساء خيرًا. فإنما هنّ عندكم عوان. ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك. إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينّةٍ. فإن فعلن، فاهجروهنَّ في المضاجع، واضربوهنّ ضربًا غير مبرّح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا». وأخرج أبو داود والنسائيّ، من حديث ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غرّبها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: فاستمتع بها». قال المنذري: ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين.
قال ابن القيّم: عورض بهذا الحديث المتشابه، الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا. واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه، فقالت طائفة: المراد بـ (اللامس) ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة. وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر. وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام، وقالت طائفة: بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما. فإنه لما أُمِرَ بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حرامًا، فأمره حينئذ بإمساكها. إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادًا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية. وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسّها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك. ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى. ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة. فأَمَرَهُ بفراقها، تركًا لما يريبه إلى ما لا يريبه. فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها، رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. والله تعالى أعلم. وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور.
فائدة:
أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنه يفرق بينهما وتردّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم.